فصل: الجزء الرابع

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: خزانة الأدب وغاية الأرب ***


الشاهد الثالث بعد الخمسمائة

المديد

للفتى عقلٌ يعيش به *** حيث تهدي ساقه قدمه

على أن الأخفش قال‏:‏ إن حيث قد تأتي بمعنى الحين، أي‏:‏ ظرف زمان، كما في هذا البيت‏.‏ قال أبو علي في إيضاح الشعر‏:‏ زعم أبو الحسن أن حيث قد يكون اسماً للزمان، وأنشد‏:‏

للفتى عقلٌ يعيش به ***‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏ البيت

فجعل حيث فيه حيناً‏.‏

فإن قلت‏:‏ فهل يجوز على هذا أن يكون موضع الجملة بعد حيث جراً، لإضافة حيث إليه، كما تضاف أسماء الزمان إلى الجمل، فالجواب‏:‏ أن ذلك لا يمتنع فيه إذا كان زماناً‏.‏

وقال ابن مالك‏:‏ لا حجة للأخفش فيه، لجواز إرادة المكان على ما هو أصله‏.‏

ويدل لما قاله أن المعنى على الظرفية المكانية، إذ المعنى‏:‏ أين مشى، لا حين مشى‏.‏

وقال ابن هشام في المغني‏:‏ وإذا اتصل بحيث ما الكافة ضمنت معنى الشرط، وجزمت الفعلين، كقوله‏:‏ الخفيف

حيثما تستقم يقدر لك الل *** ه نجاحاً في غابر الأزمان

وهذا البيت دليلٌ عندي على مجيئها للزمان‏.‏ قال الدماميني في الحاشية الهندية‏:‏ كأن ذلك جاء من قبل قوله‏:‏ في غابر الأزمان، فصرح بالزمان‏.‏ وليس بقاطع، فإن الظرف المذكور إما لغو متعلق بيقدر، وإما مستقر صفة لنجاحاً‏.‏

وذلك لا يوجب أن يكون المراد بحيث الزمان، لاحتمال أن يكون المراد‏:‏ أينما تستقم يقدر لك النجاح في الزمان المستقبل‏.‏

وقوله‏:‏ حيث تهدي قال في الصحاح‏:‏ وهداه، أي‏:‏ تقدمه ‏.‏ وأنشد البيت‏.‏ وساقه‏:‏ مفعول مقدم، وقدمه‏:‏ فاعل مؤخر‏.‏

والبيت آخر قصيدة عدتها ثلاثةٌ وعشرون بيتاً لطرفة بن العبد‏.‏

وأورد أبو عبيدٍ في الغريب المصنف البيت الذي قبل هذا، فلنقتصر عليه، وهو‏:‏

الهبيت لا فؤاد له *** والثبيت ثبته فهمه

قال أبو عبيد‏:‏ الهبيت‏:‏ الذاهب العقل‏.‏ وقال شارح أبياته ابن السيرافي‏:‏ المعنى أن الجبان يذهب عقله ويطير قلبه من الفزع، فلا يهتدي للصواب، والثابت القلب يعرف وجه الرأي فيأتيه‏.‏ وقوله‏:‏ للفتى عقل ، أي‏:‏ للفتى العاقل عقلٌ يعيش به، أين توجه انتفع به‏.‏

وقال ابن السكيت في شرح ديوانه‏:‏ الهبيت‏:‏ الذي فيه هيبة، أي‏:‏ ضربةٌ بالعصا‏.‏ وقال أبو عمرو‏:‏ الهبيت المبهوت جبناً‏.‏ ويروى‏:‏ والثبيت قلبه قيمه ، أي‏:‏ قوامه‏.‏ وقوله‏:‏ حيث تهدي إلخ، أي‏:‏ عقل حيثما مشى‏.‏

وقال الأعلم في شرحٍ الأشعار الستة‏:‏ الهبيت‏:‏ المبهوت، يقال‏:‏ رجل هبيت ومهبوت ومبهوت بمعنى، وهو الجبان المخلوع الفؤاد‏.‏ وقوله‏:‏ والثبيت ثبته فهمه ، أي‏:‏ من كان ثابت القلب ففهمه يثبت عقله‏.‏ وهذا مثلٌ ضربه لشدة الحرب‏.‏ وقوله‏:‏ للفتى عقل يقول من كان عاقلاً وفتًى متصرفاً عاش، حيثما نقلته قدمه، وذهبت به من أرض غربة وغيرها‏.‏

وكلهم حملوا حيث على أصلها كما هو ظاهر من كلامهم‏.‏

وترجمة طرفة تقدمت في الشاهد الثاني والخمسين بعد المائة‏.‏

وأنشد بعده‏:‏

الشاهد الرابع بعد الخمسمائة

وهو من شواهد س‏:‏ البسيط

ترفع لي خندفٌ والله يرفع لي *** ناراً إذا خمدت نيرانهم تقد

على أن إذا قد تجزم في الشعر فعلين كما هنا، فإن جملة خمدت في محل جزم شرط إذا، وتقد جوابها، وهو مجزوم وكسرة الدال للروي‏.‏

قال سيبويه‏:‏ وقد جاوزا بها، أي‏:‏ بإذا، في الشعر مضطرين، شبهوها بإن حيث رأوها لما يستقبل، وأنها لا بد لها من جواب‏.‏ وقال قيس بن الخطيم‏:‏ الطويل

إذا قصرت أسيافنا كان وصله *** خطانا إلى أعدائنا فنضارب

وقال الفرزدق‏:‏

ترفع لي خندفٌ والله يرفع لي ***‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏ البيت

وقال بعض السلوليين‏:‏ الطويل

إذا لم تزل في كل دارٍ عرفته *** لها واكفٌ من دمع عينيك يسجم

فهذا اضطرارٌ، وهو في الكلام خطأ، ولكن الجيد قول كعب بن زهير‏:‏ الخفيف

وإذا ما تشاء تبعث منه *** مغرب الشمس ناشطاً مذعورا

وقوله‏:‏ إذا قصرت أسيافنا إلخ، يأتي شرحه إن شاء الله بعد بيت الفرزدق‏.‏

وقوله‏:‏ ترفع لي خندفٌ إلخ، قال الأعلم‏:‏ الشاهد فيه جزم تقد على جواب إذا؛ لأنه قدرها عاملةً عمل إن ضرورةً‏.‏ يقول‏:‏ ترفع لي قبيلتي من الشرف ما هو في الشهرة كالنار الموقدة إذا قعدت بغيري قبيلته‏.‏ وخندف‏:‏ أم مدركة وطابخة ابني إلياس، فلذلك فخر بخندفٍ على قيس عيلان بن مضر‏.‏

وقوله‏:‏ إذا لم تزل في كل دار إلخ، قال الأعلم‏:‏ الشاهد في جزم تسجم على جواب إذا كما تقدم‏.‏ وتقدير لفظ البيت‏:‏ إذا لم تزل في كل دار عرفتها من ديار الأحبة يسجم لها واكفٌ من دمع عينيك‏.‏ ومعنى يسجم ينصب‏.‏ والواكف‏:‏ القاطر‏.‏ ورفعه بإضمار فعلٍ دل عليه يسجم‏.‏ ويجوز أن يكون مرتفعاً به على التقديم والتأخير ضرورة‏.‏ ويروى‏:‏ يسكب‏.‏

والبيت لجرير في قصيدة بائية، ونسب إلى غيره في الكتاب، وغيرت قافيته غلطاً‏.‏ ويحتمل أن يكون لغيره، من قصيدة ميمية‏.‏

وقوله‏:‏ وإذا ما تشاء تبعث إلخ، قال الأعلم‏:‏ الشاهد فيه رفع ما بعد إذا على ما يجب فيها‏.‏ وصف ناقته بالنشاط والسرعة بعد سير النهار كله، فشبهها في انبعاثها مسرعةً بناشط قد ذعر من صائدٍ وسبع‏.‏ والناشط‏:‏ الثور يخرج من بلد إلى بلد، فذلك أوحش له وأذعر‏.‏ انتهى‏.‏

وروى بيت الفرزدق إذا ما خبت نيرانهم تقد ‏.‏ وعليه فلا ضرورة فيه‏.‏ ووقع بهذه الرواية في بعض نسخ اللباب وقال‏:‏ إنه قليل‏.‏

قال شارحه الفالي‏:‏ هذا البيت لم يوجد مذكوراً في نسخة مقابلة بنسخه المصنف، والظاهر أنه إلحاق، والصواب إذا خمدت، لأن إذا بدون ما هو المبحث، وأما مع ما فتجويز الجزم به قد لا يستبعد، لأن إذ مع ما جوز الجزم بها، فإذا مع ما أجدر‏.‏ انتهى‏.‏

ولم يرتض الشارح المحقق الجزم بإذا ما أيضاً كما سيأتي في آخر الكلام على إذا وإذ‏.‏

وقوله‏:‏ ترفع لي خندف بكسر الخاء المعجمة والدال، قال ابن هشام في السيرة‏:‏ قال ابن إسحاق‏:‏ ولد إلياس بن مضر ثلاثة نفر‏:‏ مدركة بن إلياس، وطابخة بن إلياس، وقمعة بن إلياس، بكسر القاف وتشديد الميم المفتوحة، وأمهم خندف‏:‏ امرأة من اليمن، وهي خندف بنت الحاف بن قضاعة‏.‏ انتهى‏.‏

والخندفة‏:‏ مشيةٌ كالهرولة، ومنه سميت خندف، واسمها ليلى، نسب ولد إلياس إليها وهي أمهم‏.‏ وإنما افتخر بها الفرزدق لأنه تميمي، ونسب تميم ينتمي إليها‏.‏ وتنوين خندف للضرورة‏.‏

وقوله‏:‏ والله يرفع لي ، أي‏:‏ إن الرافع في الحقيقة هو الله‏.‏ وخمدت النار خموداً من باب قعد‏:‏ ماتت فلم يبق منها شيء، وقيل‏:‏ سكن لهبها، وبقي جمرها‏.‏

وأما خبت النار خبواً من باب قعد أيضاً فمعناه خمد لهبها‏.‏ وتقد مضارع وقدت النار وقداً من باب وعد، ووقوداً، أي‏:‏ اشتعلت‏.‏

وترجمة الفرزدق تقدمت في الشاهد الثلاثين من أوائل الكتاب‏.‏

وأنشد بعده

الشاهد الخامس بعد الخمسمائة

وهو من شواهد سيبويه‏:‏ الطويل

إذا قصرت أسيافنا كان وصله *** خطانا إلى أعدائنا فنضارب

على أن إذا جازمة للشرط والجزاء في ضرورة الشعر، بدليل جزم نضارب بالعطف على موضع جملة كان وصلها إلخ، الواقعة جواباً لإذا‏.‏

ولولا أن جملة الجواب في موضع جزم لما عطف عليه نضارب مجزوماً‏.‏ وأما كسرة الباء فهي للروي‏.‏

والبيت الذي قبل هذا ظهر أثر الجزم فيه على نفس الجواب، بخلاف هذا البيت فإنه ظهر أثره في تابعه، ولهذا قدمه على هذا البيت‏.‏ وقد تقدم نقل كلام سيبويه‏.‏

وإلى‏:‏ متعلقة بوصلها‏.‏ ويجوز أن يكون متعلقاً بالخطا‏.‏ والمعنى‏:‏ فنخطو إلى أعدائنا‏.‏ كذا قال اللخمي‏.‏

وفيه على الأول الفصل بين المصدر ومعموله بمعمول غيره، لأن خطانا خبر كان، والعامل في إذا شرطها، لأنها ليست حينئذ مضافة إليه‏.‏

قال اللخمي‏:‏ ويجوز أن يكون العامل كان‏.‏

وقال الأعلم‏:‏ يقول‏:‏ إذا قصرت أسيافنا في اللقاء عن الوصول إلى الأقران وصلناها بخطانا مقدمين عليهم حتى ننالهم‏.‏

وقال اللخمي في شرح أبيات الجمل‏:‏ معنى البيت‏:‏ إذا ضاقت الحرب عن مجال الخيل واستعمال الرماح، نزلنا للمضاربة بالسيوف، فإن قصرت عن إدراك الأقران، خطونا إليهم إقداماً عليهم فألحقناها بهم‏.‏ انتهى‏.‏

قال ابن الشجري في أماليه‏:‏ وإنما لم يجزموا بإذا في حال السعة، كما جزموا بمتى، لأنه خالف إن، من حيث شرطوا به فيما لا بد من كونه، كقولك‏:‏ إذا جاء الصيف سافرت، وإذا انصرم الشتاء قفلت‏.‏ ولا تقول‏:‏ إن جاء الصيف ولا إن انصرم الشتاء، لأن الصيف لا بد من مجيئه والشتاء لا بد من انصرامه‏.‏

وكذا لا تقول‏:‏ إن جاء شعبان كما تقول إذا جاء شعبان‏.‏ وتقول‏:‏ إن جاء زيدٌ لقيته، فلا تقطع بمجيئه‏.‏ فإن قلت إذا جاء، قطعت بمجيئه‏.‏ فلما خالفت إذا إن، فيما تقتضيه إن من الإبهام، لم يجزموا بها في سعة الكلام‏.‏ انتهى‏.‏

والبيت من قصيدةٍ بائية مجرورةٍ لقيس بن الخطيم، ووقع أيضاً في شعرٍ رويه مرفوع‏.‏

أما القصيدة المجرورة فعدتها ثمانية وثلاثون بيتاً، أوردها محمد بن المبارك بن محمد بن ميمون في منتهى الطلب، من أشعار العرب، ذكر فيها يوم بعاث، وكان قبل الإسلام بقريب‏.‏

ومطلعها‏:‏

أتعرف رسماً كالطراز المذهب *** لعمرة وحشاً غير موقف راكب

ديار التي كادت ونحن على منًى *** تحل بنا لولا نجاء الركائب

تبدت لنا كالشمس تحت غمامةٍ *** بدا حاجبٌ منها وضنت بحاجب

إلى أن قال‏:‏

إذ ما فررنا كان أسوا فرارن *** صدود الخدود وازورار المناكب

صدود الخدود والقنا متشاجرٌ *** ولا تبرح الأقدام عند التضارب

إذا قصرت أسيافنا كان وصله ***‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏ البيت

قال ابن السيد‏:‏ وروي‏:‏ إلى أعدائنا للتقارب، فلا شاهد فيه‏.‏ وروي أيض‏:‏ وإن قصرت أسيافنا، فنضارب بالرفع على الإقواء‏.‏ وأسوا أصله مهموز فأبدل الهمزة ألفاً، بمعنى أقبح‏.‏

يقول‏:‏ لا نفر في الحر بأبداً وإنما نصد بوجوهنا ونميل مناكبنا عند اشتجار القنا، أي‏:‏ تداخل بعضها في بعض‏.‏ وهذا لا يسمى فراراً، وإنما يسمى اتقاءً‏.‏ وهذا ممدوحٌ في الشجعان، أي‏:‏ فإن كان يقع منا فرارٌ في الحرب، فهو هذا لا غير‏.‏

وأما الذي رويه مرفوع، فقد وقع في شعرين أحدهما في قصيدة للأخنس بن شهاب التغلبي، أولها‏:‏

لابنة حطان بن عوفٍ منازلٌ *** كما رقش العنوان في الرق كاتب

ثم ذكر بعض قبائل العرب، ومدح قبيلته، فقال‏:‏

فوارسها من تغلب ابنة وائلٍ *** حماةٌ كماةٌ ليس فيها أشائب

وإن قصرت أسيافنا كان وصله ***‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏ البيت

هكذا رواه المفضل بإن بدل إذا، ولكن روى المصراع الثاني كذا‏:‏

خطانا إلى القوم الذين نضارب

ورواه أبو تمام أيضاً بإن، إلا أنه رواه إلى أعدائنا فنضارب فيكون نضارب خبر مبتدأ محذوف، أي‏:‏ فنحن نضارب‏.‏

والقصيدة في رواية المفضل الضبي في المفضليات سبعة وعشرون بيتاً، وشرحها ابن الأنباري‏.‏

ورواها أبو عمرٍو الشيباني في أشعار تغلب ثلاثين بيتاً‏.‏ وأوردها أبو تمام في الحماسة ثلاثة وعشرين بيتاً‏.‏ ونقلها الأعلم الشنتمري في حماسته‏.‏ وهذا مطلعها عنده‏:‏

فمن يك أمسى في بلادٍ مقامه *** يسائل أطلالاً بها ما تجاوب

فلابنة حطان بن عوفٍ منازلٌ ***‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏ البيت

وأورد منها في مختار أشعار القبائل سبعة أبيات لا غير‏.‏

وأما الشعر الثاني فهو من قصيدةٍ عدتها أربعة وعشرون بيتاً لرقيم أخي بني الصادرة‏.‏ وأوردها أبو عمرو الشيباني في أشعار قبيلة محارب بن خصفة بن قيس عيلان، وهي عندي في نسخة قديمة تاريخ كتابتها في صفر سنة إحدى وتسعين ومائتين، وكاتبها أبو عبد الله الحسين بن أحمد الفزاري، قال‏:‏ نقلتها من نسخة أبي الحسن الطوسي وقد عرضت على ابن الأعرابي‏.‏

وهذا أولها‏:‏ الطويل

عفت ذروةٌ من آل ليلى فعازب *** فميث النقا من أهله فالذنائب

وهذه أسماء أماكن أربعة‏.‏ إلى أن قال‏:‏

وقد علمت قيس بن عيلان أنن *** لنا في محليها الذرى والذوائب

وإنا لنقري الضيف من قمع الذر *** إذا أخلفت أنواءهن الكواكب

ونحن بنو الحرب العوان نشبه *** وبالحرب سمينا فنحن محارب

إذا قصرت أسيافنا كان وصله *** خطانا إلى أعدائنا فنضارب

فذلك أفنانا وأبقى قبائل *** توقوا بنا إذ قارعتنا الكتائب

نقلب بيضاً بالأكف صوارم *** فهن لهامات الرجال عصائب

ثم ذكر حروبهم وغلبتهم فيها، وختم القصيدة بقوله‏:‏

فتلك مساعينا لمن رام حربن *** إذا ما التقت عند الحفاظ الكتائب

وأورد أبو محمد الأعرابي الأسود في كتاب ضالة الأديب أربعة أبيات من هذه القصيدة، ولم يصرح باسم قائلها، وهي‏:‏ الطويل

تمنى دريد أن يلاقي ثلةً *** فقارعه من دون ذاك الكتائب

فنحن قتلنا بكره وابن أمه *** ونحن طعنا في استه وهو هارب

ونحن بنو الحرب العوان نشبه ***‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏ البيت

إذا قصرت أسيافنا كان وصله ***‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏ البيت

والبيتان الأولان غير مذكورين في رواية أبي عمرو الشيباني، والظاهر أنهما من قصيدةٍ لآخر، لأن رقيماً قال في قصيدته‏:‏

ويوم دريدٍ قد تركناه ثاوي *** به دامياتٌ في المكر جوالب

وقال أبو محمد الأعرابي‏:‏ سبب هذا الشعر أن دريد بن الصمة هجا زيد بن سهل المحاربي في قصيدة قالها دريد، حين غزا غطفان غزوة ثانية، فأغار على بني ثعلبة بن سعد بن ذبيان، فهرب عياض بن ناشب الثعلبي، ثم غزاهم، فأغار على أشجع، فلم يصبهم، فقال دريد في ذلك‏:‏

قتلنا بعبد الله خير لداته *** ذؤاب بن أسماء بن زيد بن قارب

وهي ثمانية عشر بيتاً، ومنها‏:‏

تمنيتني زيد بن سهلٍ سفاهةً *** وأنت امرؤٌ لا تحتويك مقانب

وأنت امرؤٌ جعد القفا متعكسٌ *** من الأقط الحولي شبعان كانب

وهذان البيتان بالرفع على الإقواء‏.‏ والمتعكس‏:‏ المتثني غضون القفا‏.‏ والكانب، بالنون‏:‏ الممتلئ الغليظ‏.‏ وآخرها‏:‏ الطويل

فليت قبوراً بالمراضين حدثت *** بشدتنا في الحي حي محارب

قال أبو محمد‏:‏ ولما ذكر دريد محارباً قال بعضهم يرد عليه‏.‏ وذكر الأبيات الأربعة‏.‏

وقد أورد الشريف الحسيني هبة الله في حماسته البيت الشاهد مع بيتين آخرين من القصيدة التي رواها أبو عمرٍو الشيباني، ونسبها لسهم بن مرة المحاربي، وهي‏:‏

إذا قصرت أسيافنا كان وصله ***‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏ البيت

ونحن بنو الحرب العوان نشبه ***‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏ البيت

فذلك أفنانا وأبقى قبائل ***‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏ البيت

والله أعلم بحقيقة الحال‏.‏

فظهر مما ذكرنا أن البيت من ثلاث قصائد‏.‏

قال ثعلب‏:‏ هذا البيت يتنازعه الأنصار، وقريش، وتغلب‏.‏ وزعمت علماء الحجاز أنه لضرار بن الخطاب الفهري، أحد بني محارب من قريش‏.‏

وقال ابن الأنباري في شرح المفضليات‏:‏ هو للأخنس بن شهاب، قال‏:‏ هو أول العرب وصل قصر السيوف بالخطى في قوله‏:‏

وإن قصرت أسيافن ***‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏ البيت

ومنه استرق كعب بن مالك الأنصاري صلة السيوف، فقال‏:‏

نصل السيوف إذا قصرن بخطون *** قدماً ونلحقها إذا لم تلحق

انتهى‏.‏

وهذا هو الصحيح؛ لأنه قاله قبل أن يخلق هؤلاء بدهرٍ، كما سيأتي‏.‏ ومنه تعلم خطأ جماعةٍ اعترضوا على سيبويه في روايته البيت بالكسر، منهم ابن هشام اللخمي، قال في شرح أبيات الجمل‏:‏ روى سيبويه هذا البيت بكسر الباء من نضارب على أن يكون معطوفاً على موضع كان، والبيت من شعرٍ كله مرفوع‏.‏

وكذلك أدخله أبو تمام في حماسته فيحتمل أن يكون سيبويه رواه مقوًى لقيس بن الخطيم، والصحيح أنه للأخنس بن شهاب‏.‏ هذا كلامه‏.‏

واعلم أن جماعةً من الشعراء تداولوا هذا المعنى، وقد أوردنا جملةً مما قالوه في الشاهد السادس والخمسين بعد الأربعمائة، عند بيت كعب بن مالك الأنصاري‏.‏

وزعم المبرد في الكامل أن قول أبي مخزوم النهشلي‏:‏ البسيط

إذا الكماة تنحوا أن ينالهم *** حد الظبات وصلناها بأيدينا

مأخوذٌ من بيت كعب بن مالك‏.‏ وليس كما زعم، كما بينا‏.‏

وممن تبع الأخنس بن شهاب في المعنى حناك بن سنة العبسي الجاهلي - وهو بكسر المهملة وتخفيف النون وآخره كاف، وسنة بفتح السين المهملة وتشديد النون - قال‏:‏ الكامل

أبني جذيمة نحن أهل لوائكم *** وأقلكم يوم الطعان جبانا

كانت لنا كرم المواطن عادةً *** نصل السيوف إذا قصرن خطانا

أوردهما الآمدي في المؤتلف والمختلف‏.‏

ومنهم‏:‏ أبو قيس بن الأسلت الأنصاري، قال‏:‏ السريع

والسيف إن قصره صانعٌ *** طوله يوم الوغى باعي

ومنهم‏:‏ وداك بن ثميل المازني، قال‏:‏ الطويل

مقاديم وصالون في الروع خطوهم *** بكل رقيق الشفرتين يماني

ومنهم‏:‏ نهشل بن حري، قال‏:‏ الطويل

فتًى كان للرمح الأصم محطم *** طعاناً وللسيف القصير مطيلا

ومنهم‏:‏ عبيد الله بن الحر الجعفي، قال‏:‏ الطويل

إذا أخذت كفي بقائم مرهفٍ *** وكان قصيراً عاد وهو طويل

ومنهم‏:‏ نابغة بني الحارث بن كعب، واسمه يزيد بن أبان، قال‏:‏ الكامل

وإذا السيوف قصرن بلغها لن *** حتى تناول ما تريد خطانا

ومنه قول عبد الرحمن بن سلامة الحاجب‏:‏ الوافر

ويومٍ تقصر الآجال فيه *** نطاوله بأرماحٍ قصار

وقال آخر‏:‏ الطويل

تطيل السيوف المرهفات لدى الوغى *** خطانا إذا ارتدت خطًى وسيوف

وقد أخذه مسلم بن الوليد وزاد فيه وأجاد‏:‏ البسيط

إن قصر السيف لم يمش الخطى عدد *** وعرد السيف لم يهمم بتعريد

قال ابن الأثير‏:‏ في المثل السائر، في السرقات الشعرية‏:‏ الضرب السادس‏:‏ السلخ، وهو أن يؤخذ المعنى فيزاد عليه معنًى آخر‏.‏ فمما جاء منه قول الأخنس بن شهاب، وأخذه مسلم بن الوليد فزاد عليه‏.‏ وأنشد البيتين‏.‏

وأخطأ الخالديان في شرح ديوان مسلم، في زعمهما أن مسلماً أخذه من قيس بن الخطيم‏.‏

وروى أبو إسحاق إبراهيم بن علي الحصري في كتاب الجواهر، في الملح والنوادر أن بعض الأمراء أعطى سيفاً لرجل، فقال‏:‏ هو قصير‏.‏ قال‏:‏ صله بخطوتك‏.‏ قال‏:‏ الصين أقرب من تلك الخطوة ومثله ما رواه الخالديان قالا‏:‏ روي أن المهلب نظر إلى سيف مع بعض ولده، فقال له‏:‏ إن سيفك لقصير‏.‏ قال‏:‏ ليس بقصيرٍ من يصله بخطوه‏.‏ فقال بعض من حضر المجلس‏:‏ تلك الخطوة أصعب من المشرق إلى المغرب‏.‏

وروي أن الحجاج سأل المهلب أن يريه سيفه، فلما نظر إليه، قال‏:‏ يا أبا سعد، إن سيفك لقصير‏.‏ قال‏:‏ إذا كان في يدي فلا‏.‏

وأما قيس بن الخطيم فهو شاعرٌ فارس أنصاري، مات كافراً‏.‏

قال ابن حجر في الإصابة‏:‏ قيس بن الخطيم الأنصاري، ذكره علي بن سعد العسكري في الصحابة، وهو وهمٌ فقد ذكر أهل المغازي أنه قدم مكة فدعاه النبي صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام، وتلا عليه القرآن، فقال‏:‏ إني لأسمع كلاماً عجيباً، فدعني أنظر في أمري هذه السنة، ثم أعود إليك‏.‏ فمات قبل الحول‏.‏ وهذا هو الشاعر المشهور، وهو من الأوس، وله في وقعة بعاث التي كانت بين الأوس والخزرج قبل الهجرة أشعارٌ كثيرة‏.‏ انتهى‏.‏

والخطيم، بفتح الخاء المعجمة وكسر الطاء المهملة‏.‏

وهذه نسبته‏:‏ قيس بن الخطيم بن عدي بن عمرو بن سواد بن ظفر - وظفر هو كعب - ابن الخزرج بن عمرو بن مالك بن أوس بن حارثة بن ثعلبة العنقاء بن عمرو بن عامر - وهو ماء السماء - بن حارثة الغطريف‏.‏

وقيسٌ شاعر الأوس، وهو القائل‏:‏ الطويل

طعنت ابن عبد القيس طعنة ثائرٍ *** لها نفذٌ لولا الشعاع أضاءها

ملكت بها كفي فأنهرت فتقه *** يرى قائمٌ من دونها ما وراءها

وكنت امرأٌ لا أسمع الدهر سبةً *** أسب بها إلا كشفت غطاءها

وإني في الحرب الضروس موكلٌ *** بإقدام نفسٍ لا أريد بقاءها

إذا سقمت نفسي إلى ذي عداوةٍ *** فإني بنصل السيف باغٍ دواءها

متى يأت هذا الموت لم تبق حاجة *** لنفسي إلا قد قضيت قضاءها

وقائم فاعل يرى‏.‏ ودون ووراء من الأضداد، فإن كان الأول بمعنى قدام كان الآخر بمعنى خلف، وإن كان الأول بمعنى خلف كان الثاني بمعنى قدام‏.‏

وملكت بمعنى شددت وضبطت‏.‏ وأنهرت‏:‏ أوسعت‏.‏ وقد ضمن المصراع الصفي الحلي في قوله‏:‏ الطويل

تزوج جاري وهو شيخٌ صبيةٌ *** فلم يستطع غشيانها حين جاءها

ولو أنني بادرتها لتركته *** يرى قائمٌ من دونها ما وراءها

وابن عبد القيس الذي قتله هو رجلٌ من قبيلة عبد القيس‏.‏ كان قتل أباه الخطيم فأخذ ثأره منه‏.‏

ومن شعر قيس‏:‏ الوافر

وما بعض الإقامة في ديارٍ *** يهان بها الفتى إلا عياه

يريد المرء أن يعطى مناه *** ويأبى الله إلا ما يشاء

وكل شديدةٍ نزلت بقومٍ *** سيأتي بعد شدتها رخاء

ولا يعطى الحريص غنًى بحرصٍ *** وقد ينمي على الجود الثراء

غناء النفس ما عمرت غناء *** وفقر النفس ما عمرت شقاء

وليس بنافعٍ ذا البخل مالٌ *** ولا مزر بصاحبه السخاء

وبعض الداء ملتمسٌ شفاه *** وداء النوك ليس له شفاء

قال صاحب الأغاني‏:‏ قيس بن الخطيم هذا هو صاحب المنافسات مع حسان ابن ثابت‏.‏ وذلك أن حساناً كان يذكر ليلى بنت الخطيم أخت قيس في شعره، وكان قيس يذكر في شعره امرأته عمرة، كما ذكرها في مطلع قصيدة البيت الشاهد‏.‏

وحكى المفضل، قال‏:‏ لما هدأت حرب الأوس والخزرج تذكرت الخزرج قيس ابن الخطيم ونكايته فيهم، فتواعدوا إلى قتله، فخرج عشيةً من منزله يريد مالاً له الشوط، حتى مر بأطم بني حارثة، فرمي منهم بثلاثة أسهم، فوقع أحدها في صدره، فصاح صيحةً سمعها رهطه، فجاؤوه وحملوه إلى منزله فلم يروا له كفئاً إلا أبا صعصعة بن زيد بن عوف، من بني النجار‏.‏

فاندس إليه رجلٌ حتى اغتاله في منزله فضرب عنقه واشتمل على رأسه، وأتى به قيساً وهو بآخر رمقٍ فألقاه بين يديه، وقال‏:‏ يا قيس، قد أدركت بثأرك‏.‏ فقال‏:‏ عضضت بأير أبيك إن كان غير أبي صعصعة فقال‏:‏ هو أبو صعصعة‏.‏ وأراه الرأس، فلم يلبث أن مات على كفره قبل قدوم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة‏.‏

وأما الأخنس بن شهاب فقد قال ابن الأنباري في شرح المفضليات‏:‏ هو الأخنس بن شهاب بن ثمامة بن أرقم بن حزابة بن الحارث بن نمير بن أسامة بن بكر بن معاوية بن غنم بن تغلب‏.‏ والأخنس شاعر جاهلي قبل الإسلام بدهر‏.‏ انتهى‏.‏

وأما رقيم أخو بني الصادرة المحاربي فالظاهر أنه شاعرٌ إسلامي لأن أبا عمرو الشيباني، قال بعد تلك القصيدة‏:‏ وقال رقيم أيضاً، وكان سعد بن معاذٍ الأنصاري خاله‏:‏ الرجز

اهتز عرش الله ذي الجلال *** لموت خالي يوم مات خالي

ورقيم بضم الراء وفتح القاف‏.‏ والصادرة اسمه سعد بن بذاوة بن ذهل بن خلف بن محارب‏.‏ كذا في جمهرة الأنساب‏.‏

ولم يذكره ابن حجر في الإصابة‏.‏ فإذا لم يكن صحابياً، ولا مخضرماً، يكون تابعياً، ويكون سعد بن معاذ، خال أبيه، وخال إحدى أمهاته‏.‏ والله أعلم‏.‏

وقد أورد ابن حجر من اسمه رقيم من الصحابة لكنه أنصاري لا محاربي‏.‏ قال‏:‏ أبو ثابت، رقيم بن ثابت بن ثعلبة الأنصاري الأوسي، استشهد بالطائف‏.‏

وأنشد بعده‏:‏ الطويل

إذا الخصم أبزى مائل الرأس أنكب

على أن وقوع الجملة الاسمية بعد إذا شاذ‏.‏

وتقدم ما يتعلق في الشاهد التاسع والخمسين بعد المائة‏.‏ وهذا عجزٌ، وصدره‏:‏

فهلا أعدوني لمثلي تفاقدوا

وهو من أبيات مذكورة في الحماسة وقد شرحناها هناك‏.‏

وإذا‏:‏ ظرفٌ لأعدوني‏.‏ وجملة‏:‏ تفاقدوا اعتراضٌ بينهما‏.‏ يقول‏:‏ هلا جعلوني عدةً لرجل مثلي، فقد بعضهم بعضاً، وهلا ادخروني ليوم الحاجة إذا كان الخصم هكذا متأخر العجز مائل الرأس منحرفاً‏.‏

وهذا تصويرٌ لحال المقاتل إذا انتصب في وجه مقصوده‏.‏ ورجلٌ أبزى بالزاء المعجمة‏:‏ يخرج صدره ويدخل ظهره‏.‏ وأبزى هنا مثلٌ، ومعناه الراصد المخاتل، لأن المخاتل ربما انثنى فيخرج عجزه‏.‏

وفسره أبو رياش بقوله‏:‏ تحامل على خصمه ليظلمه‏.‏ فجعل أبزى فعلاً ماضياً، وإنما المعروف بزوت الرجل، ومنه اشتقاق البازي‏.‏ وعليه فالخصم مرفوعٌ بفعل يفسره أبزى، فلا شذوذ حينئذ‏.‏

قال في القاموس‏:‏ وبزى فلاناً‏:‏ قهره وبطش به كأبزى به‏.‏ ويرفع مائل الرأس على أنه بدلٌ من الخصم‏.‏ والأنكب‏:‏ المائل، وأصله الذي يشتكي منكبيه، فهو يمشي في شق‏.‏ ومائل الرأس، أي‏:‏ مصعر من الكبر‏.‏

وأنشد بعده‏:‏

الشاهد السادس بعد الخمسمائة

البسيط

حتى إذا أسلكوهم في قتائدةٍ *** شلا كما تطرد الجمالة الشردا

على أن جواب إذا عند الشارح المحقق محذوفٌ لتفخيم الأمر، والتقدير‏:‏ بلغوا أملهم، وأدركوا ما أحبوا، ونحو ذلك‏.‏

وهذا هو الصواب من أقوالٍ ثلاثة في إذا‏.‏

قال ابن السيد في شرح أبيات أدب الكاتب‏:‏ هذا مذهب الأصمعي، ومثله يقول الراجز‏:‏ الرجز

لو قد حداهن أبو الجودي *** بزجرٍ مسحنفر الروي

مستوياتٍ كنوى البرني

أراد‏:‏ لأسرعن‏.‏

وذهب جماعةٌ إلى أن شلا أثر الجواب، إذا التقدير‏:‏ شلوهم شلا، فاستغنى بذكر المصدر عن ذكر الفعل لدلالته عليه‏.‏ منهم أبو علي في التذكرة، قال‏:‏ شلا منتصب بجواب إذا‏.‏

ومنهم‏:‏ ابن الشجري في أماليه قال‏:‏ البيت آخر القصيدة، فلا يجوز أن تنصب شلا بأسلكوهم، لئلا يبقى إذا بغير جوابٍ ظاهر، ولا مقدر، ولكن تنصبه بفعلٍ تضمره فيكون جواب إذا، فكأنك قلت‏:‏ حتى إذا أسلكوهم شلوهم شلا‏.‏

ومنهم‏:‏ ابن الأنباري في مسائل الخلاف قال‏:‏ لم يأت بالجواب، لأن هذا البيت آخر القصيدة، والتقدير فيه‏:‏ حتى إذا أسلكوهم شلوا شلا، فحذف للعلم به توخياً للإيجاز‏.‏

وهذا المذهب غير سديدٍ في المعنى، لأن الشل، أي‏:‏ الطرد إنما كان قبل إسلاكهم في قتائدة، أي‏:‏ إدخالهم فيها، وكلامهم يقتضي أن يكون بعد ذلك، وهو فاسد، وإنما شلا حال من الواو، أي‏:‏ شالين، ومن هم، أي‏:‏ مشلولين‏.‏

والأقيس لقوله كما تطرد الجمالة، فشبه الشل بشل الجمالة، وهو الطاردون‏.‏ وإذا كان حالاً من ضمير المفعول، وجب أن يقول‏:‏ كما تطرد الجمال الشرد، وهو مع ذلك جائز لأن العرب قد توقع التشبيه على شيء والمراد غيره‏.‏ والكاف في كما في موضع الصفة لشلا، وما مصدرية، كأنه قال‏:‏ شلا كطرد‏.‏

والشرد بضمتين‏:‏ جمع شرود‏:‏ وهي من الإبل التي تفر من الشيء إذا رأته، فإذا طردت، كان أشد لفرارها، فلذلك خصها بالذكر‏.‏

قال ابن السيد‏:‏ وقال أبو عبيدة‏:‏ إذا زائدة، فلذلك لم يؤت لها بجواب‏.‏ فالميداني مسبوق بأبي عبيدة في هذا، لا أنه قوله كما هو صريح كلام الشارح المحقق‏.‏

ويؤيده ما روى أبو عبد الله محمد بن الحسين اليميني في ترجمة أبي عبيدة من طبقات النحويين قال‏:‏ حدثونا عن رجل عن أبي حاتم قال‏:‏ أملى علينا أبو عبيدة بيت عبد مناف بن ربع الهذلي‏:‏

حتى إذا أسلكوهم في قتائدةٍ ***‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏ البيت

قال‏:‏ هذا كلامٌ لم يجىء له خبر‏.‏

وهذا البيت آخر القصيدة‏.‏ قال‏:‏ ومثله قول الله جل ثناؤه‏:‏ ولو أن قرآناً سيرت به الجبال وقطعت به الأرض إلى قوله‏:‏ بل لله الأمر جميعاً ‏.‏

قال‏:‏ فجئت إلى الأصمعي فأخبرته بذلك، فقال‏:‏ أخطأ ابن الحائك، إنما الخبر في قوله‏:‏ شلا، كأنه قال‏:‏ شلوهم شلا‏.‏ قال‏:‏ فجعلت أكتب ما يقول، ففكر ساعة ثم قال لي‏:‏ اصبر فإني أظنه كما قال؛ لأن أبا الجودي الراجز أنشدني‏:‏ الرجز

لو قد حداهن أبو الجودي *** بزجرٍ مستحنفر الروي

مستوياتٍ كنوى البرني

فهذا كلامٌ لم يجئ له خبر‏.‏ انتهى‏.‏

وهذا النقل يخالف ما قاله ابن السيد، وكذلك يخالفه قول شارح أشعار هذيل السكري، وهو غير أشعار الهذليين، في شرح هذا الشعر، قال الأصمعي‏:‏ هذا ليس له جوابٌ، وقد سمعت خلفاً ينشد عن أبي الجودي‏:‏

لو قد حداهن أبو الجودي ***‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏ البيت

لم يجعل له جواباً‏.‏ وقال‏:‏ قد يقال‏:‏ إن قوله شلا جوابٌ، كأنه قال‏:‏ حتى إذا أسلكوهم شلوهم شلا‏.‏ انتهى‏.‏

فالنقل عن الأصمعي مضطربٌ كما ترى‏.‏

وقال في الصحاح‏:‏ إذا زائدة، ويكون قد كف عن خبره لعلم السامع‏.‏ انتهى‏.‏

ولا ينبغي القول بزيادة إذا لأنها اسم، والاسم لا يكون لغواً‏.‏ وعلى تقدير القول يكون شلا حالاً أيضاً كما قلنا‏.‏

وقوله‏:‏ أسلكوهم أسلك لغة في سلك، يقال‏:‏ أسلكت الشيء في الشيء مثل سلكته فيه، بمعنى أدخلته فيه، ولهذا أنشد صاحب الكشاف هذا البيت عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فاسلك فيها من كل زوجين اثنين‏}‏‏.‏

وقتائدة بضم القاف بعدها مثناة فوقية وبعد الألف همزة‏:‏ بعدها دال مهملة‏.‏ قال ابن السيد‏:‏ هي ثنية ضيقة‏.‏

وقال الأصمعي‏:‏ كل ثنية قتائدة‏.‏ وقال في الصحاح‏:‏ قتائدة‏:‏ اسم عقبة‏.‏ وأنشد البيت، وقال‏:‏ أي‏:‏ أسلكوهم في طريق قتائدة‏.‏

وقال البكري في معجم ما استعجم‏:‏ قال اليزيدي عن ابن حبيب‏:‏ هي جبلٌ بين المنصرف والروحاء‏.‏ وعلى قول الأصمعي لا يكون صرفها للضرورة‏.‏

قال أبو الفتح‏:‏ همزة قتائدة أصلٌ لأنها حشو ولم يدل على زيادتها دليل‏.‏

قال‏:‏ ولا تحملها على حطائط وجرائض لقلتهما‏.‏ انتهى‏.‏

ونقل ياقوت في معجم البلدان عن الأزهري أنها جبل‏.‏ وأنشد البيت‏.‏

والشل‏:‏ الطرد، والجمالة‏:‏ فاعل تطرد‏.‏ قال ابن السيد‏:‏ والجمالة‏:‏ أصحاب الجمال، كما يقال الحمارة لأصحاب الحمير، والبغالة لأصحاب البغال‏.‏ ولم يقولوا فراسة ولا خيالة‏.‏ انتهى‏.‏

وقال ابن الشجري في معاني التاء‏:‏ الضرب الرابع أن يدل لحاق التاء على الجمع، كقولهم‏:‏ رجلٌ جمال ورجالٌ جمالةٌ، وبغال وبغالة، وحمار وحمارة، وسيار وسيارة‏.‏ وأنشد البيت‏.‏

والشرد بضمتين كما تقدم، قال في الصحاح، ويروى البيت بفتحتين أيضاً على أنه جمع شارد، كخدم جمع خادم‏.‏ وقد وصف في هذا البيت قومٌ هزموا حتى ألجئوا إلى الدخول في قتائدة‏.‏

وقد استشهد أبو علي به على أن تاء التأنيث قد تجيء دالة على عكس دلالتها في باب تمرة وتمر‏.‏ قال أحد شراح أبيات الإيضاح‏:‏ ألا ترى أن جمالة واقعٌ على الجمع، فإن أردت الجمع أسقطت التاء، فقلت‏:‏ تمر‏.‏

فإن قال قائل‏:‏ لعل التاء لم تلحق جمالةً وأمثاله، لما ذكرتم من التفرقة بين الجمع والمفرد، ولحقته من حيث كان صفة الجمع‏.‏

ألا ترى أن الأصل كما تطرد الرجال الجمالة الشرد‏.‏ والجمع وإن كان لمذكر قد تعامله العرب معاملة الواحدة من المؤنث، ومن ذلك قولهم‏:‏ الرجال وأعضادها، والنساء وأعجازها ‏.‏

قيل له‏:‏ الدليل على أن التاء في جمالة دخلت لما ذكر من الفرق، أنها من الصفات التي أتت على معنى النسب كدارع ولابنٍ‏.‏

ألا ترى أنها غير مأخوذةٍ من فعل، كما أن دارعاً ولابناً كذلك‏.‏ وقياس الصفات التي تأتي على معنى النسب التي لا تلحقها التاء وإن جرت على مؤنث نحو‏:‏ حائض وطامث، فكان ينبغي على هذا أن لا تلحق التاء، لولا ما أريد من التفرقة بين المفرد والجمع‏.‏

وإنما أدخلوها حين أرادوا التفرقة في صفة الجماعة ولم يدخلوها في صفة المفرد، لأن جمع التكسير وإن كان لمن يعقل قد يعامل معاملة الواحدة من المؤنث كما تقدم، فكانت بذلك أحق بالتاء‏.‏ إلى هنا كلامه‏.‏

والبيت آخر قصيدةٍ عدتها اثنا عشر بيتاً لعبد مناف بن ربع الجربي‏.‏ وهي‏:‏ البسيط

ماذا يغير ابنتي ربعٍ عويلهم *** لا ترقدان ولا بؤسى لمن رقدا

كلتاهما أبطنت أحشاؤها قصب *** من بطن حلية لا رطباً ولا نقدا

إذا تجرد نوحٌ قامتا معه *** ضرباً أليماً بسبتٍ يلعج الجلدا

من الأسى أهل أنف يوم جاءهم *** جيش الحمار فجاؤوا عارضاً بردا

لنعم ما أحسن الأبيات نهنهةً *** أولى العدي وبعد أحسنوا الطردا

إذ قدموا مائةً واستأخرت مائةٌ *** وفياً وزادوا على كلتيهما عددا

صابوا بستة أبياتٍ وأربعة *** حتى كأن عليهم جابئاً لبدا

شدوا على القوم فاعتطوا أوائلهم *** جيش الحمار ولاقوا عارضاً بردا

فالطعن شغشغةٌ والضرب هيقعةٌ *** ضرب المعول تحت الديمة العضدا

وللقسي أزاميلٌ وغمغمةٌ *** حس الجنوب تسوق الماء والبردا

كأنهم تحت صيفي له نحمٌ *** مصرحٍ طحرت أسناؤه القردا

حتى إذا أسلكوهم في قتائدةٍ ***‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏ البيت

قوله‏:‏ ماذا يغير ابنتي ربع إلخ، قال شارح القصيدة‏:‏ غار أهله‏:‏ مارهم‏.‏ وابنتا ربع هما أختا الشاعر‏.‏ والعويل‏:‏ رفع الصوت بالبكاء‏.‏ لا ترقدان‏:‏ لا تنامان، ومن نام فلا بؤسى له، فإن الذي ينام مستريحٌ بخيرٍ في راحة، قرير العين، وإنما البؤس على من حزن لسهرٍ ومرض‏.‏ والبؤس‏:‏ الضيق والشدة‏.‏

وقوله‏:‏ كلتاهما إلى آخره، هذا مثل، أي‏:‏ كأن في صدورها مزامير من البكاء والحنين‏.‏ ومن بطن حلية، أي‏:‏ هذا القصب الذي يزمر به أخذ من بطن حلية، بفتح المهملة وسكون اللام بعدها مثناة تحيتة‏:‏ اسم واد‏.‏ والنقد بفتحٍ فكسر‏:‏ المتأكل‏.‏

وقوله‏:‏ إذا تجرد نوحٌ إلخ، جمع نائحة، أي‏:‏ إذا تهيأ نساءٌ للنوح‏.‏ وضرباً، أي‏:‏ وضربنا ضرباً‏.‏ بسبت بالكسر، وهو الجلد المدبوغ‏.‏ كان النساء يلطمن خدودهن بجلدة‏.‏ ويلعج‏:‏ يحرق، يقال‏:‏ وجد لا عج الحزن، أي‏:‏ حرقته، والجلد بكسر اللام لغة في سكونها، أراد جلد وجهها‏.‏

وقوله‏:‏ من الأسى إلخ، الأسى‏:‏ الحزن‏.‏ وأنف‏:‏ بلدٌ به قتلوا يومئذ‏.‏

وقوله‏:‏ جيش الحمار كانوا غزوا ومعهم حمارٌ يحملون عليه زادهم‏.‏ والعارض‏:‏ الجيش، شبهه لكثرته بالعارض من السحاب الممتلئ ماءً‏.‏ والبرد، بكسر الراء‏:‏ الذي فيه البرد بفتحتين‏.‏

وقوله‏:‏ لنعم ما أحسن إلخ‏.‏

وروي‏:‏

عمري لقد أحسن الأبيات نهنهةً *** أولى الخميس‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏

والنهنهة‏:‏ الرد‏.‏ وأولى العدي‏:‏ العادية، وهي الحاملة‏.‏ والأبيات‏:‏ قوم أغير عليهم‏.‏ وأحسنوا الطرد، أي‏:‏ أحسنوا طرادهم‏.‏

وأولى مفعول لنهنهة‏.‏ والمعنى‏:‏ نعم ما أحسنوا رد العدي، وأحسنوا مطاردتهم بعد‏.‏

وقوله‏:‏ إذ قدموا مائة إلخ، وروى أبو عبد الله‏:‏ البسيط

فقدموا مائةً وأخروا مائةً *** كلتاهما قد وفت وازدادتا عددا

وقوله‏:‏ صابوا بستة إلخ، صابوا‏:‏ وقعوا‏.‏ وصاب المطر‏:‏ وقع‏.‏ والجابئ بموحدة فهمزة‏:‏ الجراد‏.‏ واللبد، بفتح فكسر‏:‏ المتراكب بعضه على بعضٍ‏.‏ واللبد بضم ففتح‏:‏ الكثير‏.‏ يقول‏:‏ من كثرة ما وقع عليهم الناس كأن عليهم جراداً منقضاً‏.‏

وقوله‏:‏ شدوا على القوم فاعتطو‏:‏ شقوا أوائل القوم‏.‏ وجيش الحمار بالجر بدل من ضمير الجمع المضاف، وبالنصب بدل من أوائل‏.‏ وقيل له‏:‏ جيش الحمار لأنه كان في الجيش حمارٌ جاؤوا عليه‏.‏ ويقال‏:‏ إنما كان معهم حمارٌ يحمل بعض متاعهم‏.‏ يقول‏:‏ لاقوا جيشاً مثل العارض الذي فيه بردٌ‏.‏

وقوله‏:‏ فالطعن شغشغة‏:‏ إلخ، الشغشغة بمعجمتين‏:‏ حكاية صوت الطعن في الأجواف والأكفال‏.‏ والهيقعة‏:‏ حكاية صوت الضرب بالسيوف‏.‏ والمعول بكسر الواو المشددة‏:‏ الذي يبني عالة‏.‏ والعالة‏:‏ شجر يقطعه الرامي فيستظل به من المطر‏.‏ والعضد بفتحتين‏:‏ ما قطع من الشجر، والمضارع بكسر الضاد، يقال‏:‏ عضد يعضد عضداً، إذا قطع‏.‏ وجعله تحت الديمة لأنه أسمع لصوته إذا ابتل‏.‏

وقوله‏:‏ وللقسي أزاميل‏:‏ جمع أزملٍ، والياء من إشباع الكسرة‏.‏ وأزمل كل شيء‏:‏ صوته‏.‏ يريد أن لها أصواتاً تختلط فتصير واحداً‏.‏ والغمغمة‏:‏ صوتٌ لا يفهم‏.‏ والحس‏:‏ الصوت‏.‏ والجنوب‏:‏ الريح‏.‏ أي‏:‏ لها صوتٌ كدوي الريح الجنوب‏.‏

وقوله‏:‏ كأنهم تحت صيفي إلخ، أي‏:‏ سحاب‏.‏ له نحم بفتح النون والحاء المهملة، أي‏:‏ صوت ينتحم مثل نحيم الدابة‏.‏ مصرح‏:‏ صرح بالماء‏:‏ صبه وانكشف فصار غيماً خالصاً، ونفى عنه القرد بفتح القاف والراء المهملة، وهو من السحاب‏:‏ الصغار المتلبد المتراكب بعضه على بعض‏.‏

وطحرت‏:‏ دفعت‏.‏ والأسناء‏:‏ جمع سناً وهو الضوء‏.‏ يقول‏:‏ كأنهم تحت مطرٍ صيفي مما يقع بهم، له نحم، أي‏:‏ صوت رعد‏.‏ ويروى‏:‏ لهم نحم‏.‏

وعبد مناف‏:‏ شاعرٌ جاهلي من شعراء هذيل، وهو ابن ربع الجربي، بكسر الراء وسكون الموحدة‏.‏ والجربي، بضم الجيم وفتح الراء المهملة‏:‏ نسبة إلى جريب كقريش، وهو بطنٌ من هذيل، وهو جريب بن سعد بن هذيل‏.‏ وهذه الوقعة، يقال لها‏:‏ يوم أنف بفتح الألف وسكون النون، وهو بلدٌ يلي ديار بني سليم من ديار هذيل‏.‏

وقال السكري‏:‏ أنفٌ‏:‏ داران، إحداهما فوق الأخرى بينهما قريبٌ من ميل‏.‏ ويقال‏:‏ أنف عاذ فيضاف، بالعين المهملة والذال المعجمة، كذا قال السكري‏.‏ وبدالٍ مهملة رواها أبو عمرو‏.‏

وكانت بنو ظفر من بني سليم حرباً لهذيل، فخرج المعترض بن حنواء الظفري يغزو بني قرد من هذيل، وفي بني سليم رجلٌ من أنفسهم كان دليل القوم على أخواله من هذيل، وأمه امرأةٌ من بني جريب بن سعد، واسمه دبية، فدلهم فوجد بني قرد بأنف، وبنو سليم يومئذ مائتا رجل، وزاملتهم حمار‏.‏

فلما جاء دبية بنى قرد، قالوا له‏:‏ أي ابن أختنا، أتخشى علينا من قومك مخشى‏؟‏ قال‏:‏ معاذ الله‏.‏ فصدقوه وأطعموه، وتحدثوا معه ساعةً من الليل‏.‏

ثم قام كل واحد منهم إلى بيته، ورمقه رجلٌ من القوم، وأوجس منه خيفة، حتى إذا هدأ أهل الدار فلم يسمع ركز أحدٍ ولا حسه، لم ير إلا إياه قد انسل من تحت لحاف أصحابه‏.‏ فحذر بني قرد لذلك، فقعد كل رجل منهم في جوف بيته آخذاً بقائم سيفه، وعجس قوسه ومعه نبله‏.‏

وحدث دبية أصحابه بمكان الدارين، فقدموا مائةً نحو الدار العليا، وتواعدوا طلوع القمر، وهي ليلة خمسةٍ وعشرين من الشهر، والدار في سفح الجبل، فبدا القمر للأسفلين قبل الأعلين، فأغار الذين بدا لهم القمر فقتلوا رجلاً من بني قرد، فخرجوا من بيوتهم فشدوا عليهم فهزموهم، فلم يرع الأعلين إلا بنو قرد يطردون أصحابهم بالسيوف، فزعموا أنهم لم ينج منهم ليلتئذٍ إلا ستون رجلاً من المائتين، وقتل دبية، وأدرك المعترض فقتل أيضاً‏.‏

وقال عبد مناف بن ربع هذه القصيدة، وذكر فيها هذا اليوم‏.‏

وقد أطلت الكلام هنا لأني لم أر من شرح البيت الشاهد كما ينبغي، ولم يذكر أحدٌ القصيدة ولا اليوم كان سبباً لها‏.‏

وأنشد بعده‏:‏

الشاهد السابع بعد الخمسمائة

الطويل

فأضحى ولو كانت خراسان دونه *** رآها مكان السوق وهي أقربا

لما ذكره، قال أبو علي في التذكرة القصرية‏:‏ هي لا تدخل فصلاً في قول أصحابنا قبل نكرة، فإذا كانت أقرب بمنزلة قريب لم تكن هي فصلاً، وإذا لم تكن فصلاً، كان وعطفاً على عاملين‏.‏ انتهى‏.‏

وفيه مسامحة، إذ مراده على معمولي عاملين، فهي معطوف على مفعول ترى، وأقرب معطوف على مكان‏.‏

وقال في إيضاح الشعر‏:‏ لا تخلو هي من أن تكون مبتدأ، ووصفاً، وفصلاً‏.‏ فلا تكون مبتدأ لانتصاب ما بعده‏:‏ فبقي أن تكون وصف وفصلاً‏.‏ وذلك أن قوله‏:‏ رآها مكان السوق دال على‏:‏ ورآها، فحذفها من اللفظ لدلالة ما تقدم عليها، فصار التقدير‏:‏ ورآها أقرب، أي‏:‏ ورآها أقرب من السوق، فصارت هي فصلاً بين الهاء، والخبر المنتصب‏.‏

وقد يجوز أن تجعل هي وصفاً للهاء التي هي المفعول الأول، كما جاز ذلك في‏:‏ تجدوه عند الله هو خيراً ‏.‏ والأول أوجه، لأن المحذوف لحذفه يستغني عن وصفه‏.‏

ويجوز أن يكون أقرب ظرفاً‏.‏ فإذا جعلته ظرفاً، ولم تجعله وصفاً كان مبتدأ، وأقرب الخبر، والتقدير‏:‏ وهي أقرب من السوق‏.‏ ومثله‏:‏ والركب أسفل منكم ‏.‏ انتهى‏.‏

وهذا الأخير هو مراد الشارح المحقق‏.‏ وأراد بالوصف التوكيد، وهو تعبير سيبويه‏.‏

وقال أبو حيان في تذكرته‏:‏ قال الفراء‏:‏ إذا قيل منزلك بالحيرة، وأقرب منها، ففي أقرب الرفع والنصب، أي‏:‏ ومنزلك أقرب من الحيرة ومكاناً أقرب منها، ويكون موضع أقرب خفضاً بالنسق على الحيرة، معناه، وبأقرب منها‏.‏ وأنشد الفراء‏:‏

فأضحى ولو كانت خراسان دونه *** رآها مكان السوق وهي أقربا

فنصب الأقرب على المحل، وتأويله‏:‏ وهي مكاناً أقرب من خراسان‏.‏ على أن قد جوز مجوزٌ نصب أقرب في البيت على خبر رأى المضمرة، وقدره‏:‏ ورآها هي أقرب‏.‏ انتهى‏.‏

وقوله‏:‏ أقرب من خراسان سهوٌ، وصوابه أقرب من السوق‏.‏

ثم قال أبو حبان‏:‏ وقد قال الفراء‏:‏ العرب تؤثر الرفع مع أو‏.‏ واحتج بقول الله تعالى‏:‏ ‏{‏فهي كالحجارة وأشد قسوة‏}‏‏.‏ رفعت القراء أشد ولم تحمله على العطف، وبنته على‏:‏ وهي أشد قسوة‏.‏

على أنه يجوز في النحو وأشد قسوة بنصب أشد، وموضعه خفض بالنسق على الحجارة، أي‏:‏ كالحجارة وكأشد قسوة‏.‏

فإنما أوثر الرفع مع ولأنها تأتي بمعنى الإباحة‏:‏ إن شبهتم قلوب هؤلاء بالحجارة أصبتم، وبما هو أشد قسوة من الحجارة أصبتم، وإن شبهتم قلوبهم بالحجارة وما هو أشد قسوة منها لم تخطئوا، كما يقال‏:‏ جالس الحسن وابن سيرين‏.‏

يعني قد أبحت إفراد أحدهما بالمجالسة، والجمع بينهما في ذلك‏.‏ فلما أتت وبهذا المعنى اختاروا أن لا يعربوا ما بعدها بإعراب الذي قبلها إذا أمكن الاستئناف، ليدل بذلك على استواء الجملتين اللتين إحداهما قبلها، والأخرى بعدها‏.‏ ولو لم يكن استئنافٌ اختلط الذي بعدها بالذي قبلها، وسقط معنى الاختصاص بالإباحة‏.‏ انتهى‏.‏

وهذا يؤيد كون أقرب ظرفاً خبراً لهي‏.‏

والبيت آخر أبيات خمسة لعبد الله بن الزبير الأسدي، رواها المبرد في الكامل وغيره، وهي‏:‏ الطويل

أقول لعبد الله يوم لقيته *** أرى الأمر أمسى منصباً متشعبا

تجهز فإما أن تزور ابن ضابئ *** عميراً وإما أن تزور المهلبا

هما خطتا خسفٍ نجاؤك منهم *** ركوبك حولياً من الثلج أشهبا

فما إن أرى الحجاج يغمد سيفه *** يد الدهر حتى يترك الطفل أشيبا

فأضحى ولو كانت خراسان دونه *** رآها مكان السوق أوهي أقربا

قوله‏:‏ أقول لعبد الله روى صاحب الأغاني أقول لإبراهيم‏.‏ وأورد منشأ هذه الأبيات مختصراً، فقال‏:‏ لما قدم الحجاج الكوفة والياً صعد المنبر، وأوعد أهلها، وهددهم، ثم حثهم على اللحاق بالمهلب بن أبي صفرة، وأقسم إن وجد منهم أحداً اسمه في جريدة المهلب بعد ثالثة بالكوفة قتله‏.‏

فجاءه عمير بن ضابئ البرجمي، فقال‏:‏ أيها الأمير‏:‏ إني شيخٌ لا فضل في، ولي ابنٌ شاب جلد، فاقبله بدلاً مني‏.‏ فقال عنبسة بن سعيد بن العاص‏:‏ أيها الأمير، هذا جاء إلى عثمان، وهو مقتولٌ، فرفسه وكسر ضلعين من أضلاعه فقال له الحجاج‏:‏ فهلا يومئذ بعثت بدلاً يا حرسي اضرب عنقه فسمع الحجاج ضوضاةً، فقال‏:‏ ما هذا‏؟‏ فقيل‏:‏ هذه البراجم جاءت لتنصر عميراً‏.‏ فقال‏:‏ أتحفوهم برأسه فولوا هاربين، فازدحم الناس على الجسر للعبور للمهلب حتى غرق بعضهم، فقال عبد الله بن الزبير الأسدي‏:‏

أقول لإبراهيم لما لقيته ***‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏ الأبيات المذكورة

والمنصب‏:‏ اسم فاعل من أنصبه، أي‏:‏ أتعبه‏.‏ والمتشعب أيضاً‏:‏ اسم فاعل من تشعب، أي‏:‏ تفرق‏.‏

وقوله‏:‏ تجهز فإما إلخ، أي‏:‏ تهيأ لأحد هذين الأمرين‏:‏ إما يقتلك الحجاج كما قتل عميراً وإما تلحق المهلب‏.‏

وقوله‏:‏ هما خطتا خسفٍ إلخ، الخطة بالضم‏:‏ الحالة‏.‏ والخسف بفتح المعجمة‏:‏ الذل‏.‏ ونجاؤك، أي‏:‏ خلاصك‏.‏ والحولي، هو من كل ذي حافر ما استكمل سنةً، ودخل في الثانية‏.‏ والأنثى حولية، وأراد به هنا المهر‏.‏ والأشهب من الخيل وغيره‏:‏ ما غلب بياضه على سواده‏.‏

ومن الثلج صفة أولى لحولي، وهو بالضم جمع أثلج، وهو الفرحان النشيط‏.‏ ومراده بهذا الفرار، كما فر سوار بن المضرب السعدي من الحجاج يومئذ، وقال‏:‏ الطويل

أقاتلي الحجاج إن لم أزر له *** دراب وأترك عند هندٍ فؤاديا

فإن كان لا يرضيك حتى تردني *** إلى قطري ما إخالك راضيا

إذا جاوزت درب المجيرين ناقتي *** فباست أبي الحجاج لما ثنانيا

أيرجو بنو مروان سمعي وطاعتي *** وقومي تميمٌ والفلاة ورائيا

وممن هرب منه‏:‏ مالك بن الريب المازني، وقال‏:‏ الطويل

فإن تنصفونا يال مروان نقترب *** إليكم وإلا فأدنوا ببعاد

ففي الأرض عن دار المذلة مذهبٌ *** وكل بلادٍ أوطنت كبلاد

فماذا ترى الحجاج يبلغ جهده *** إذا نحن جاوزنا خفير زياد

فلولا بنو مروان كان ابن يوسفٍ *** كما كان عبداً من عبيد إياد

وقوله‏:‏ فما إن أرى إلخ، إن زائدة، والحجاج مفعول أول لأرى، وجملة‏:‏ يغمد سيفه في موضع المفعول الثاني‏.‏ وأغمد سيفه‏:‏ أدخله في غمده بالكسر، أي‏:‏ قرابه‏.‏ ويد الدهر، بفتح المثناة التحتية بمعنى مدى الدهر، بالميم بدلها‏.‏ وقوله‏:‏ حتى يترك حتى‏:‏ بمعنى إلا‏.‏

وقوله‏:‏ فأضحى ولو كانت خراسان الفاء سببية تسبب ما بعدها عن قوله‏:‏ تجهز فإما أن تزور ‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏البيت‏.‏ وأضحى من الأفعال الناقصة واسمها ضمير عبد الله وإبراهيم، وجملة رآها خبرها‏.‏ وقد مر أن الشارح المحقق استشهد بقوله‏:‏ الطويل

وكان طوى كشحاً على مستكنة

على وقوع الماضي خبراً للأفعال الناقصة، وعلى هذا تكون لو وصليةً لا جواب لها، وعليه المعنى، فإنه يريد أن عبد الله صار كأنه رأى خراسان مكان السوق قريبة منه، وهي أقرب من السوق، فذهب إليها من غير تأهب واستعداد، لشدة خوفه من الحجاج، وإن كانت خراسان في نفس الأمر دونه بمراحل‏.‏

وزعم أبو علي في إيضاح الشعر أن خبر أضحى محذوف، فتكون لو شرطية، ورآها جوابها‏.‏ ولا يخفى ركاكة الشرطية‏.‏ وهذه عبارته‏:‏ فأما خبر أضحى فمحذوف تقديره‏:‏ فأضحى مشمر ومجد ونحو ذلك، مما يدل عليه ما تقدم ‏.‏ انتهى‏.‏

وخراسان‏:‏ ولايةٌ واسعة تشتمل على أمهاتٍ من البلاد، منها نيسابور، وهراة، ومرو، وبلخ، واختلف في تسميتها بذلك، فقال دغفل النسابة‏:‏ خرج خراسان وهيطل ابنا عابر بن سام بن نوح عليه السلام، لما تبلبلت الألسن ببابل، فنزل كل واحد منهم في البلد المنسوب إليه‏.‏

يريد أن هيطل نزل في البلد المعروف بالهياطلة، وهو ما وراء نهر جيحون، ونزل خراسان في البلاد المذكورة، فسمي كل بقعة بالذي نزل بها‏.‏

ونقل أبو عبيد البكري في المعجم عن الجرجاني، أنه قال‏:‏ معنى خر‏:‏ كل، وآسان معناه‏:‏ سهل، أي‏:‏ كل بلا تعب‏.‏ وقال غيره‏:‏ معنى خراسان بالفارسية مطلع الشمس‏.‏ انتهى‏.‏

وقوله‏:‏ دونه ، أي‏:‏ دون عبد الله‏.‏ ودون بمعنى أمام‏.‏ وزعم المبرد في الكامل أن الضمير للسفر المفهوم من المقام‏.‏ وقال‏:‏ يعني دون السفر‏.‏ رآها مكان السوق للخوف والطاعة‏.‏ وهذا كلامه ولم يفسر من هذا الشعر غير هذا‏.‏

ومكان‏:‏ ظرف، والسوق مؤنث سماعي، وتذكر، وهو محل البيع والشراء، وهي ضمير خراسان، وأقرب أفعل تفضيل منصوبٌ على الظرفية، وهو وعامله خبر هي، والألف للإطلاق‏.‏

روى صاحب الأغاني أن ناظم هذه الأبيات لما قفل من حرب الأزارقة جاء يوماً إلى الحجاج، هو بقنطرة الكوفة يعرض عليه الجيش، وجعل يسأل عن رجلٍ رجل، فمر به ابن الزبير فسأله من هو، فأخبره، فقال‏:‏ أأنت الذي تقول‏:‏

تخير فإما تزور ابن ضابئ *** عميراً وإما أن تزور المهلبا

قال‏:‏ بلى‏.‏ فقال الحجاج‏:‏ فامض إلى بعثك‏.‏ فمضى فمات بالري‏.‏

وتقدمت ترجمته في الشاهد الرابع والعشرين بعد المائة‏.‏

وهذه الوقعة وقعة الخوارج، وكان أميرهم قطري بن الفجاءة، وكان تغلب على شيراز وكازرون وما يليها، في زمن عبد الملك بن مروان، وكان عبد الملك أمر أمير الكوفة أخاه، وهو بشر بن مروان، أن يولي المهلب بن أبي صفرة لقتال الخوارج، فولاه وأمده بجيشٍ من الكوفة كبيرهم عبد الرحمن بن مخنف، وكانوا ثمانية آلاف رجل ولحقوا بالمهلب‏.‏ وبعد شهر مات بشر، فلما تسامعوا بموته تسللوا من عند المهلب وجاؤوا إلى الكوفة‏.‏

ثم إن عبد الملك بن مروان ولى الحجاج موضع أخيه، وأمره أن يمد المهلب، فلما جاء الحجاج إلى الكوفة صعد المنبر وحث أهل الكوفة باللحاق إلى المهلب، وهددهم وأعطاهم أرزاقهم، وحلف إن وجد أحداً منهم بعد ثلاثة أيام ليضربن عنقه‏.‏ فهابه الناس وتسارعوا في السفر‏.‏

وقد فصل المبرد في الكامل هذه الأخبار والحروب وما قيل فيها من الأشعار، وشرحها‏.‏

وللحجاج خطبةٌ بليغة قالها على المنبر حين دخوله الكوفة أميراً عليها، ستأتي إن شاء الله مشروحة في أفعال المقاربة عند شعر عمير بن ضابئ‏.‏

وأنشد بعده‏:‏